في 2016، و في خضّم ذروة النقاش حول التطبيقات والشبكات الاجتماعية في الولايات المتحدة و أوروبا، نشرت النيويورك تايمز تقريراً مفصّلاً عن نوع جديد من التطبيقات التي يبدو أن للصين فضلاً كبيراً في جعلها معياراً بديلاً لما يمكن بناء شركات ربحية ضخمة عبره. كان هذا التطبيق “وي تشات WeChat”، و في الوقت الذي لايعطي إسمه سوى أنه تطبيق محادثة اجتماعي آخر، كان التطبيق يمثل رؤية ساحقة طاغوتية ستستحوذ على مخيلة كل القطاع التقني تقريباً.
استحواذ وصل لحد جعل حلم السوبر آب هدفاً من أهداف استحواذ العمّ إيلون مسك على تويتر. (على الأقل من التويت لأنه من الصعب أن نعرف مايدور في ذهن إيلون، قد يكون “عم يمزح”!)
هي رؤية التطبيق الشامل أو السوبر آب، و وي تشات ليس الوحيد في الصين.
كيف؟
ببساطة، تحول WeChat من تطبيق محادثة لتطبيق يمكن عبره القيام بكل شيء تقريباً. من المحادثة مع الأصدقاء إلى مشاهدة الفيديو وتحويل الأموال ودفع الفواتير وحجز تذاكر السفر والتعلّم وطلب الطعام والتسوق والاشتراك بالبودكاستات وحتى الألعاب والتسلية و حجز موعد عند طبيب الأسنان!
WeChat تحول إلى منصة شاملة أو حتى “نظام تشغيل” للحياة. يرى كثيرون بأن مستقبل الخدمات - كل الخدمات - المقدمة عبر الإنترنت ستكون كذلك. لم تعد ماتقدمه الصين نسخاً من تطبيقات شهيرة كفيسبوك ويوتيوب وتويتر بل تقدم الآن شيئاً أصيلاً خاصاً بها. عدد مستخدمي التطبيق اليوم 1.24 بليون و وصلت عائداته لـ 17.4 بليون في 2021.
لماذا؟
يرى كثيرون أيضاً، بأنه و مع أصالة المفهوم، يسهّل هذا أيضاً عمل الرقيب. رقيب شديد مثل الحكومة الصينية التي يعيش رعاياها تحت سور إنترنتي عظيم يحجب عنهم أغلب الخدمات التي تقدم في الولايات المتحدة. يعني هذا أن كل التفاعلات التي تقوم بها في حياتك كمستخدم لخدمات الإنترنت سهلة المراقبة و ربما أكثر مباشرة واتصالاً بك شخصياً.
الآن، وبعيداً عن الجانب السياسي الإشكالي حول الموضوع، نرى هنا أن مفهوم الشبكة الاجتماعية يتجاوز مشاركة الصور والتحديثات وتحول لنظام حياة متكامل، يلعب فيه التطبيق دوراً رئيسياً في انتشار هذه الخدمات. يعاد تعريف الـ Virality أو الانتشار الفيروسي المستخدم في التسويق والمحتوى هنا ليصبح حول كل شيء تقريباً.
كيف؟
وفقاً للشريكة في شركة الاستثمار الشهيرة A16Z كوني تشان Connie Chan والتي تتخصص في السوق الصيني والشرق آسيوي عموماً. يعود هذا لسببين.
الأول هو: لم لا! (الحقيقة هذا واحد من أذكى الأجوبة)
الثاني وهو الأعمق ربّما، هو نظرة هذا السوق للموبايل وكيفية تصميم وتطوير الخدمات عليه.
الآن عبارة التصميم للموبايل أولاً Mobile First هي عبارة ليست بغريبة عن السوق الغربي وصناعة الإنترنت عموماً. إلا أن ماتراه تشان أن نظرة مطوري التطبيقات في الصين للموبايل هي نظرة تنظر للموبايل باختلاف جوهري عن السوق الأمريكي.
لنأخذ الكاميرا على سبيل المثال، قد نكون الآن بعد جائحة كوفيد قد اعتدنا في الغرب وفي العالم العربي على استخدام كود الـ QR لتأكيد حصولنا على اللقاح أو الدفع في المطاعم أو حتى مسح كود للدخول لموقع. من المهم جداً أن نذكر هنا أن هذا الأمر هو في المسلّمات في السوق الآسيوي ويعود حتى لـ 2009 و قبل ذلك. تعامل السوق أو المطورين مع الكاميرا تختلف جوهرياً عن التفكير بها كأداة لالتقاط صور فقط. ينظر لها كأداة “إدخال” لكل شيء تقريباً. هناك تطبيقات تسمح بقراءة مراجعة الكتب عبر التقاط صورة للغلاف وتطبيقات الدفع عبر الكود أصبحت اعتيادية للجميع. قبول المستخدمين واعتيادهم على الخدمة لفترة طويلة هو عنصر أساسي للنجاح.
ذكرتني هذه النظرة للجهاز بالنقلة النوعية التي حصلت في العالم العربي و أفريقيا مقارنة بالغرب، والمرتبطة بالحواسب والإنترنت. مر العالم الغربي بمرحلة طويلة يعتمد فيها الجميع على الحاسب الشخصي واتصالات البرودباند، بينما كان الأمر في العالم العربي انتقالاً شبه مباشر إلى الموبايل كجهاز ونمط اتصال رئيسي بالإنترنت مع مرحلة اعتماد على الحواسب لايمكن وصفها إلا بالخجولة قياساً لعدد السكان وانتشار الموبايل الحالي. أسباب هذا معقدة على النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كان الموبايل هو الجهاز الذي يعتمد عليه كثيرون كجهاز رئيسي لاستخدام الانترنت وخدماته.
هل سينجح هذا إذا طبقته الشركات التقنية الأمريكية؟
هنا التحدي. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أن تطور التطبيقات مبني في الغرب بشكل رئيسي على النموذج المالي التي تستطيع عبره تحقيق الدخل. هذا الفصل كان أساساً في نجاح خدمات البحث والتواصل الاجتماعي.
قبل الخوض في التفاصيل. لنوضح بعض الأمور.
تمويل هذا النوع من الشركات يعتمد على الاستثمار الجريئ المدعوم من شركات استثمار تتخصص في هذا المجال، Venture Capital Firms هي شركات تقوم على الاستثمار الجريئ الطويل الأمد وفق أهداف محددة قد تتغير باستمرار، تركز على النمو المستمر للوصول لمرحلة خروج Exit عبر إدراج الشركة في سوق الأسهم أو الاستحواذ عليها من قبل شركة أخرى أكبر منها وفق هامش ربح سخي. قام هذا لفترة طويلة على مبدأ الفصل بين الخدمات و خلق أعمال من أفكار قد تكون بسيطة و الاعتماد بشكل شبه رئيسي على النمو Growth الدائم. (لم ينجح تويتر في ذلك كفيسبوك مثلاً) لم تحقق أوبر Uber (المتخصصة بطلب التكسي عبر الموبايل) مثلاً أي عائدات مالية إيجابية منذ تشكيلها (وإدراجها في البورصة حتى) حتى الربع الثاني من 2022! كثيرة هي الشركات التي تشبه حالتها حالة أوبر حتى وإن نجحت في الحصول على ملايين المستخدمين.
الاعتماد على آلية توليد دخل ثم أرباح وحيدة تقريباً. الإعلانات! الإعلانات هي التي أنجحت غوغل وفيسبوك.. في 2020، كان فيسبوك يعتمد بنسبة 97.9% على الإعلانات لتحقيق العائدات مثلاً، كان الرقم أكثر من 80% بالنسبة لغوغل!
لندمج الاعتماد على أموال الاستثمار (سواء أكان استثماراً جرئياً أو عبر سوق الأسهم) مع الإعلانات والاعتماد شبه الأوحد عليها لتوليد العائدات، لنستنتج ببساطة أن حالة الشلل التكنولوجي المالي اليوم أوصلت كثيرين للتساؤل عن ماذا بعد؟ ما الذي يمكن أن تنتجه الشركة لتحقق مدخول (قبل الأرباح) يجعلها قادرة على التشغيل وعدم “حرق” الأموال المستثمرة. صحيح أن تسامح المستثرين كبير في حال وجود خطة واضحة على الأقل، لكن يتحول هذا لمحط تساؤل في الظروف الاقتصادية الصعبة (كالتي نعيشها اليوم) أو في حال عدم نجاح الشركة في الالتزام بخططها أو عدم تحققها ببساطة.
تحاول الشركات جاهدة الإجابة على هذا، وهو صعب لدرجة أنها لاتزال غير قادرة على الإجابة عليه مع كل محاولات شركة ميتا إيجاد وسط جديد كلياً مثلاً كالواقع الافتراضي، أو حتى محاولات غوغل دفع خدماتها الجديدة كالتخزين السحابي والهواتف الذكية و نظام أندرويد و الألعاب ( Stadia التي فشلت) وغيرها. التركيز هنا على هاتين الشركتين لأنهما الأكبر في القطاع التقني وتعتمدان على الإعلانات بشكل ملحوظ، دون الاعتماد على الأجهزة والخدمات كآبل ومايكروسوفت و أمازون (كلها تتوسع في مجال الخدمات المدفوعة بشكل غير مسبوق حالياً وحتى الإعلانات!)
هناك أيضاً عامل “العادة”. لم يعتد مستخدمي الخدمات المقدمة من هذه الشركات (سواء أكانت بحثاً أم تواصلاً أم غير ذلك) من التعامل مع الموبايل وتطبيقاته بنفس الطريقة. لايعني هذا أنه لن يحدث لكنه يحتاج لفترة لابأس بها من التحضير (لنأخذ بعين الاعتبار أن المزاج العام حالياً ليس لصالح كبرى الشركات التقنية الأمريكية أيضاً).
تويتر في حالة غريبة هنا، لم تكن حالة الشركة المالية مستقرة وكانت تعاني الكثير من المشاكل التقنية. لنضف لهذا أنها - ككل الشبكات الاجتماعية المفتوحة - تعيش في مستنقع إدارة المجتمعات وقواعد النشر، وهو أمر تضاعف منذ وصول دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة.
قوة تويتر الكبرى هي نقطة ضعفه. فمع سوء الأداء المالي، استحوذت الخدمة على مخيّلة المشاهير و الصحافيين والسياسيين والإعلاميين والمهرّجين وصنّاع القرار. يحافظ هذا على قوة العلامة التجارية إن صح التعبير وبقائها نقطة مرجعية في الثقافة الشعبية. تويتر - كغيره - اعتمد على الإعلانات التي تتعقد علاقتها مع المحتوى تدريجياً. حتى الإعلانات لم تكن مفيدة لتحويله لشركة رابحة. وصل عدد مستخدميه لـ 395.5 مليون مستخدم نشط في 2021. عائداته المالية كانت 5 بليون دولار في 2021.
أما خسارته فكانت 221 مليون دولار في 2021 أيضاً!
من هذا المنطق، نجد أن أمام إيلون تحد حقيقي في:
إيصال عدد المستخدمين النشطين لرقم معقول يمكن بناء فكرة السوبر آب عليه. (جدير بالذكر أن لواتس آب 2 بليون مستخدم نشط يومياً حول العالم، تيك توك تجاوز البليون (ولديه نظام تسوق قوي) وأوبر (التي تستثمر بشكل جدي في فكرة السوبر آب) حولي 93 مليون مستخدم.
إيجاد طريقة لتوليد الدخل غير الإعلانات! الأمر هنا ليس بالهين قياساً لعدد المستخدمين. بدأت الشائعات بالفعل حول نيّة إيلون إعادة التفكير بخدمة Twitter Blue (المتوفرة في الولايات المتحدة فقط) لتصبح بـ
20 دولار8 دولار شهرياً وتتيح توثيق الحساب لمن يريد. (إعلانات إيلون تتغير باستمرار ولا تزال)هذا لايعني أنه لايريد الإعلان. فهو قام أيضاً بنشر رسالة خاصة للمعلنين بعد يوم واحد فقط من إتمام الاستحواذ على تويتر، يشرح فيه التزامه بسياسة الحياد. من غير الواضح بعد إن كان هذا سيزيد شهية المعلنين لاستخدام المنصّة.
إعادة الاعتبار لتويتر كمنصة جدية، إعادة الاستقرار بمعنى آخر. وهنا التحدي الأكبر.
يعاني تويتر من مشكلة صورة لفترة طويلة. إلى الآن، لم يثبت تويتر نفسه إلا في مجال الأخبار الحيّة و الأحداث والنقاش الدامي بعدها بين السياسيين والصحافيين والنشطاء و المهرّجين. من الصعب أخذ النقاش بجدية في نفس الوقت الذي تنشر فيه أهم الأخبار عليه، وفي نفس الوقت الذي يستخدمه المؤثرون من سياسيين وغيرهم للتحكم بـ وتغيير مسار هذه الأحداث حتى.
أمثلة هذا:
ما بدأه دونالد ترامب في تحد الأخبار والسياسيين والصحفيين بشكل مباشر (كونها تغريدات من حساب رئيس الولايات المتحدة الشخصي، قبل حجبه بعد أحداث 6 يناير في الولايات المتحدة)
ما قامت به العائلة الملكية في المملكة المتحدة بإعلان وفاة الملكة عبر تغريدة وبدقائق معدودة قبل هيئة الإذاعة البريطانية BBC التي كان من المفترض أن تقوم بذلك.
ما يقوم به إيلون مسك على تويتر. من تعليقات سياسية، مشاركة في الميمز، التحكم بسوق العملات المشفرة (كريبتو) والكثير غير ذلك. (يجادل كثيرون أن لها تبعات سلبية متعلقة بسلامة المنصة وتأثيرها على العالم الحقيقي وعدم التفرقة بين الجد و الهزل)
لنعد لقوة تويتر التي تتجلى في إعطاء الشخص القدرة على التحكم بالـ Narrative أو سردية الخبر إن صح التعبير. يتيح تويتر “بث” المعلومات أكثر من اعتماده على التشبيك الاجتماعي بين الناس، كفيسبوك مثلاً.
يمكن أن يكون هذا الشخص فرداً عادياً تمر تغريداته على الجميع مرور الكرام، أو شخصية مشهورة يؤخذ كلامها بشكل جدي ويحرك الأخبار. قد يكون في هذا حق، أو باطل، تهريج أو جدية!
إذاً قوة تويتر الحالية هي نقطة ضعفه، لأن نقاشات من هذا النوع ليست نقاشات يريد المعلنون لتغريداتهم أن ترتبط بها بأي شكل من الأشكال. هي نقاشات مرتبطة بسلامة استخدام المنصة وطبيعة المحتوى المنشور عليها وتأثيره المباشر على الناس.
ماذا عن السوبر آب!
حالة السوبر آب خاصة بالسوق الصيني إلى الآن، ومحاولة نسخها في الشركات التقنية الغربية جارية بالفعل وسهلة نسبياً لكثير منها (على الأقل نظرياً).
فكرة الاعتماد على السوبر آب من الناحية المالية، مفيد من ناحية تنويع مصادر الدخل للشركة. لنأخذ مثلاً شركة Tencent في الصين (مالكة WeChat وصاحبة استثمارات لاتنتهي في تطبيقات أخرى كالألعاب و الأفلام) و عائداتها في 2018.
نرى بوضوح هنا أن اعتماد Tencent على الإعلانات أقل من 20 بالمئة من وارداتها. هذا هو بالضبط ما تعاني منه كبرى الشركات التقنية (متضمنة تويتر). الاستثناء هنا هو آبل ومايكروسوفت وأمازون إلى حد ما (بالإضافة للشركات التي تقدم خدمات تقنية أخرى غير الاعلانات كقواعد البيانات أو تطبيقات التصميم والتحرير).
التحدي هو في بناء الشراكات التي ستحول هذا التطبيق ليقوم بطلب الطعام و حجز الفنادق و غير ذلك. كل هذا مع المحافظة على الميزة الرئيسية التي تجعل جُلّ المستخدمين يعودون إليه باستمرار (على الأقل في البداية). علينا أن نتذكر أيضاً أن بدائل تويتر مثل ماستادون وحتى سبستاك منصة رسائل البريد الإلكتروني هذه تعمل على التوسع و إطلاق خدمات منافسة بسمعة أفضل.
تحويل تويتر (وغيره) إلى سوبر آب أو X آب كما وصفها إيلون ليست بالأمر البسيط، هي رؤية قد يصل أو لايصل لها فريقه. هي بالتأكيد ممكنة تقنياً وسهلة، لكن عليها ربما أن تدور حول قوة تويتر (على الأقل خلال هذه الفترة) والتي كما رأينا سابقاً تدور حول الأحداث الحيّة والمعلومات. قد محاولاته وفريقه الآن هي أفكار لجعل المستثمرين مقتنعين على الأقل بأنها منصة سيدفع مستخدموها لقاء خدمات يروها مناسبة لهم (تمهيداً للتوسع لاحقاً).
و في هذا الكثير من التحديات والأسئلة المتشابكة.