مرحباً بكم من جديد…
مررنا في الشهرين الماضيين بنقلة نوعية في عالم التكنولوجيا بعد أن قدمت شركة Open AI خدمة ChatGPT، خدمة المحادثة التي تعتمد على الذكاء الصنعي المتطور. الخدمة قادرة على إجراء محادثة حول كل شيء تقريباً وقادرة على القيام بأي شيء تقريباً طالما كان يعتمد على النص أو السؤال والجواب. سيطرت على مخيّلة الجماهير واستخدمت في كل شيء، من كتابة تقارير الطلاب في المدارس (بعضهم كشف أمره 😅) إلى البرمجة و كتابة الشعر والمقالات..
سارعت كل الشركات الناشئة وغير الناشئة إلى تضمين شيء من الذكاء الصنعي في خدماتها بعد أن أعلن “الخبراء” أن الاعتماد على الذكاء الصنعي يمر بنقلة نوعية، وسيكون عام 2023 عام تضمينه في كل شيء.
قد يكون هذا صحيحاً وإن كان سطحياً! لكني لن أتحدث عن ChatGPT اليوم.
في عام 1973 أنتج كل من ريتشارد سيرا Richard Serra و كارلوتا فاي سكولمان Carlota Fay Schoolman فيلماً فنيّاً قصيراً عن التلفزيون التجاري.
يرى الفيلم أن منتج التلفزيون التجاري الحقيقي هو الناس. التلفزيون التجاري الذي يجمع بيانات عن الناس ويبيعها للمعلن.
يُجمعُ كثيرون أن في هذا الفيلم، ذكرت عبارة “أنتَ المُنتج” التي نربطها بالشبكات الاجتماعية اليوم للمرة الأولى.
أشهر اقتباس عن فيسبوك و الشبكات الاجتماعية عموماً، كان بالأساس عن التلفزيون التجاري.
قمت بترجمة هذا الفيلم للعربية وإعادة إنتاجه، لنشاهده أولاً و نعود لموضوعنا
كيف؟
كان لشبكات التلفزيون التجاري في بداية السبعينيات الكثير في الولايات المتخدة من القواسم المشتركة مع شركات الإنترنت و الشبكات الاجتماعية. كان انتشار التلفزيون وقتها مشابهاً لطفرة انتشار الحواسب والموبايلات في زمننا. تكنولوجيا متقدمة موجودة في بيوت ملايين من الأمريكيين.
من كان يمتلك القنوات في ذلك الوقت؟ شركات تجارية ضخمة لها الكثير من القواسم المشتركة مع فيسبوك أو غوغل أو تيك توك اليوم. تحوّل االتلفزيون تدريجياً لمصدر رئيسي للأخبار وبدأ بتقديم الكثير من الدراما والكوميديا و أي فكرة “محتوى” جديدة. مصدر دخل تلك القنوات كان “الإعلانات”. لم يتطلب تداخل الأخبار أو الأفكار الثقافية المؤثرة مع الإعلانات الكثير من الوقت ليصبح مصدراً للقلق من منطلق تضارب المصالح.
على الرغم من أن هذه الشبكات التلفزيونية لم تجمع بيانات المشاهدين على المستوى الذي تقوم به شركات الإنترنت (أو حتى شبكات التلفزيون المعاصرة) اليوم، فقد درسوا التركيبة السكانية لجمهورهم بعناية وعرضوها على المعلنين. أوصلهم هذا لإمكانية بيع إعلانات بدقة قريبة لآلية بيع الإعلانات اليوم. صحيح أن نموذج العمل و الإنتاج كان يقوم على إيصال الأخبار والمواد الترفيهية لأعداد كبيرة من الأشخاص الممكن استهدافهم بإعلانات مناسبة وفقاً لعامل وقت اليوم فقط (على عكس الدقة العالية في إعلانات اليوم الإنترنتية)، إلا أن لهذا تأثيرات ملحوظة على المجتمع والسياسة خصوصاً في المجتمعات التي تقوم على التصويت وكيف يتم التلاعب حول قوانين التواصل مع الناس.
فيلم "التلفزيون يسلم الناس" لم يكن متعلقًا بخصوصية البيانات كما هي حالنا اليوم مع شركات الإنترنت. لكنّه كان حول تأثير التلفزيون هذا على الثقافة والسياسة. كان نقد سيرا وسكولمان الرئيسي هو أن القنوات التلفزيونية التي تصل لمئات الملايين تضع مصالح المعلنين على مصالح المشاهدين بطريقة خفية و خبيثة للغاية (وإن كانت برأيي غير مقصود بالضرورة بداية)، عبر تقديم محتوى مدموج بإعلانات يديم حالة استهلاكية، تؤدي إلى إضعاف التفكير الحر وتحقيق حالة من الركود الجمعي المصطنع إن صح التعبير. لن تنتج الشبكات الكبيرة محتوىً يهدد مصالح الشركات الكبرى هذه حسب اعتقادهم، لأنها تقوم على خدمة مصالح هذه الشركات بالدرجة الأولى، وتأثيرها السلبي يتضاعف عندما ترتبط بالأخبار. لأن الأخبار هي ما نعرف، هي الأساس الذي تنطلق منه أحكامنا. فكرة أننا المنتج تأتي بأن من يُباع و يشترى هو الحالة الفكرية والاجتماعية للناس دون فهمهم الدقيق لما يجري.
صحيح أن عبارة أن المنتج ارتبطت بالشبكات الاجتماعية اليوم، إلا أن علاقة الأمر مع مفهوم الإعلان تزيد عمق الفكرة وتفك ارتباطها المقيّد هذه الأيام بالشبكات الاجتماعية لكل أنماط الميديا و المحتوى عموماً.
لا أريد التبحّر كثيراً بالأسس الفكرية و السياسية التي ينطلق منها سيرا وسكولمان وسأترك الحكم لكم بعد مشاهدة الفيلم القصير.
لكني أريد التركيز على فكرة “أنت المنتج” التي قد تأخذ منحى جديداً اليوم بعد إطلاق خدمات الذكاء الصنعي الجديدة يميناً و يساراً. هنا نعود لـ ChatGPT.
تأتي قوة خدمات مثل ChatGPT وغيرها من قيامها بالأساس على تغذيتها بكم كبير جداً من البيانات. أتت هذه البيانات في حالة ChatGPT من مسح مطوري الخدمة لكل ما هو موجود على الويب، ثم تدريب النموذج على هذه البيانات. الشركة الآن قريبة جداً من طرح خدماتها بشكل مدفوع لمايكروسوفت وللمطورين وللمستخدمين على حد سواء. من أين أتت هذه البيانات؟ من جميع البشر الذين عملوا بشكل جماعي غير منظم على مدى العقود الماضية.
أصبح موضوع البيانات التي تغذي النماذج الخوارزمية التي تشكل عصب خدمات الذكاء الصنعي اليوم محط نوع جديد من الإشكالات حول البيانات. يتمثّل هذا حالياً في خدمات توليد الصور عبر الذكاء الصنعي مثل DALL-E (التي طورته Open AI أيضاً) أو نموذج Stable Diffusion المجاني الذي طورته شركة Stability AI. حدث أن احتوت صور مولدة عبر Stable Diffusion على آثار من صور شركة Getty Images (التي يبدو أن شركة Stability AI استعملتها لتدريب النموذج). تقاضي Getty Images الآن شركة Stability AI بحجة انتهاك قانون حماية الملكية كونها استخدمت بيانات لاتمتلكها لتدريب نموذجها؟ واجه كثير من الفنانين المعاصرين نفس المشكلة حيث ظهر توقيعهم على كثير من الصور المولدة.
لكن ماذا عن حق باقي البشر؟ لا إجابة واضحة هنا. محاولتي هنا هي ربط فكرة “أنت المنتج” المرتبطة بالإعلام والشبكات الاجتماعية بحالة جديدة نعيشها اليوم حول طبيعة كل ماننتج على الإنترنت وإمكانية استخدامه كبيانات تدريب لنماذج ذكاء صنعي مختلفة لن تكون النماذج التي نراها اليوم أولها أو آخرها. من المُنتِجْ و من المُنتَجْ بعد الآن؟ هل لعبارة “أنت المنتج” معنى بعد اليوم؟ إن كانت المشكلة سابقاً أن جزءاً من بيانات البشر استخدمت كمعرّف لهم عند بيع الإعلانات، ما هي حالتهم إن أصبح كل ماينتجوه غذاء لتدريب نماذج معقدة ترخص تجارياً بدون علمهم أو معرفتهم أو اهتمامهم!؟