في عام 2013 تعرفت على شخص حاول إقناعي بأن أشتري بعض البتكوين، تلك العملة الرقمية المشفرة الصاعدة التي- كان يراها كثيرون - محفزاً رئيسياً لثورة جديدة على عالم الاقتصاد العالمي. سمعت وسمعت وسمعت.. تحمست وبحث.. وجدت أن سعر البتكوين الواحدة وقتها حوالي 100 دولار. تحكم بي الجُبن مصحوباً بعدم الفهم والخوف.لم أشتر شيئاً!
لكنّي - و كمهتم بالتكنولوجيا عموماً - تابعت بحذر مايجري مع ندب حظّي، إلى أن وصلنا لأوائل 2020 حيث وصل سعر البتكوين الواحدة لـ 6635 دولار. كان الارتفاع مذهلاً!
مع نهاية 2020 و بسبب جائحة كوفيد وقضاء عشرات الملايين وقتهم وراء الشاشات و دفع بعض الحكومات لتعويضات مالية عالية وتحول في طبيعة الاستثمار وما يعنيه للناس و كثير من العوامل الإضافية وصل سعر البتكوين لـ 29000 دولار أمريكي بارتفاع 416%!
فجأة وجد كثيرون أنفسهم أصحاب ملايين رقمية. مليونيرية كريبتو (العملات الرقمية المشفرة). سأتابع بالإشارة للعملات الرقمية المشفرة بالكريبتو.
يجري شيء ما بسرعة هنا! شيء مثير؟
للاقتصادي روبرت ج. شيلر Robert J. Shiller كتاب مميز Narrative Economics أو الاقتصاد السردي . يدرس الكتاب تأثير السردية على كبرى الأحداث الاقتصادية، وكان للبتكوين قسم خاص في الكتاب عنها. تلك السرديّة التي تستحوذ على مخيلة البشر وتؤثر في تصرفاتهم الاقتصادية. يقول روبرت:
"السردية هي العامل الرئيسي للتغيرات السريعة في الثقافة و روح العصر والسلوك الاقتصادي."
أما حول البتكوين (والعملات الرقمية المشفرة بشكل عام) فيقول:
سردية البتكوين تتضمن قصصاً ألهمت الشباب المعولم. كان سرداً يتناقض مع صورة الإنسان البيروقراطي الممل. قصة تدول حول الغنى و الفقر وعدم المساواة بين الناس، والتقدم التكنولوجي و مجموعة من المصطلحات التقنية العصيّة الفهم. وكان لتأثير قصة البتكوين تبعات مفاجئة لكثير من الناس بداية من قصة إنشائها المبهمة.
خلق صعود فكرة العملة الرقمية المشفرة الأولى Bitcoin والعملات الرقميّة الأخرى كإيثر، عشرات وعشرات من الشركات التي تقوم على العملات الرقمية المختلفة التي يمكن لأي شخص تقنياً إنتاجاً ثم بناء شركة ما عليها. حركات مختلفة، أفكار ثورية، حتى أن وصل الأمر لإنتاج منصات تداول Exchanges مثل FTX في 2019، و Binance في 2017 و أقدمها Coinbase في 2012. لنركز قليلاً على FTX.
تسمح منصة تداول العملات الرقمية ببساطة، وعبر واجهات الاستخدام البسيطة نسبياً، للجميع بفتح حسابات وشراء وتداول العملات الرقمية المختلفة، سواء بين بعضها أو البيع والشراء بالنقود التقليدية. نمت هاتان المنصّتان لمرحلة أصبحتا فيها وسيطاً لتجارة أغلب عملات الكريبتو في العالم.
أسس FTX، شاب يُظهر الطموح - خرّيج MIT و شغوف بألعاب الفيديو و بشخصيّة تظهر الشفافية و الطّباع الإيثارية - يدعى سام بانكمان فرايد Sam Bankman-Fried ويعرف بـ SBF، مقر الشركة في جزر الباهاما. أنفقت ملايين الدولارات مؤخراً للضغط على المشرعين الأمريكيين للنظر في قوانين “صديقة” للتداول عبر الكريبتو كونها منطقة رمادية في السوق المالي الأمريكي والعالمي. عشرات المقابلات على الإنترنت مع هذه الشخصية التي تسير بخطى ثابتة لجعل الكريبتو سوقاً منافساً للسوق المالي التقليدي، نظرة مختلفة لثروة الأفراد وثورية في التعامل مع المال.
Binance، أكبر سوق تداول كريبتو في العالم، يديرها الملياردير Changpeng Zhao أو CZ. الشركة ، التي ليس لها مقر رسمي وتعمل إلى حد كبير خارج الولايات المتحدة. كانت Binance من أوائل المستثمرين في FTX، وبينهما علاقة معقّدة.
قامت كلتا الشركتين ببناء أعمالهما على خيارات تداول محفوفة بالمخاطر. لكل منهما شركات أمريكية تابعة لها وهي Binance.us و FTX.us وهي منفصلة عن الشركات الشقيقة وتهدف إلى الامتثال للوائح الولايات المتحدة. على عكس الاثنتين، Coinbase مثلاً هي منصة تداول كريبتو أمريكية أخرى تمتثل بالكامل لتشريعات الولايات المتحدة (على الأقل الأساسي منها المتعلق بالقوانين العامة الضابطة للتداول، لأن الكريبتو منطقة رمادية كما ذكرت)
كان لدى FTX ما يقدر بـ 1.2 مليون مستخدم مسجل كانوا يستخدمون هذا السوق لبيع وشراء البتكوين وآلاف أخرى. وصل تقييم الشركة لـ 32 بيلون دولار و هبط للاشيء خلال أيام.
ما الذي حدث؟
الأحداث و الفضائح تتسارع! (لحد كتابة النشرة)، لكن محور القصة يدور حول مجموعة من الأحداث الرئيسية من 2 إلى 11 نوفمبر الحالي اوصلت إلى إفلاس الشركة، صراع علنيّ مع Binance، استقالة SBF، اكتشافات عمليات أقرب للاحتيال، احتمالات ضياع أموال المودعين وعدم قدرتهم على سحب أموالهم من FTX إن أرادوا ذلك (ينتشر هذا باستمرار لمنصات تداول أخرى)، و هبوط حاد في أسعار العملات الرقمية المشفرة نفسها .
كل هذا بدأ مع تسريب على موقع الأخبار CoinDesk في 2 نوفمبر حول الميزانية العمومية balance sheet لشركة Alameda Research وهي محفظة وقائية hedge fund للكريبتو مملوكة من قبل SBF. نشر التسريب امتلاك الصندوق لبلايين الدولارات من عملة رقمية مشفرة تحمل اسم FTT (وهي العملة الرقمية المشفرة الخاصة بـ FTX). هذه الكميّة لم تكن طبيعية.
توضيح سريع وملخّص جداً هنا على موضوع FTT والعملات الرقمية الأخرى. يوجد اليوم ما يقارب 12000 عملة رقمية مشفرة، وحقق كثير منها نمواً ملحوظاً. لايزال عدد هذه العملات يتضاعف ويظهر جديدها كل حين وآخر.
جوهر العملات الرقمية المشفرة إشكالي كونها لاتقدم داعماً حقيقياً لقيمتها غير ما يقوله أصحابها و مستثمريها مع بعض الاستثناءات. كانت العملات التقليدية مدعومة بالذهب كوسيط يقبل به كل الناس (تغير هذا مع الدولار الأمريكي في السبعينات، لكن بقيت الحكومة الأمريكية والقيمة الرمزية للولايات المتحدة كداعم). بتكوين هي أول عملة رقمية وأكثرها أماناً واستقراراً نسبياً بسبب أصالة الفكرة وجوهرها القائم على الكم المحدود ( 21 مليون بتكوين فقط، وهذا يتحكم بالسعر)، هناك أيضاً عملة إيثر Ether والتي أصبح لها داعم قيمة جيد يقوم على تطبيقاتها في ما يسمى بالعقود الذكية.
المشكلة الآن هي أن باقي العملات الرقمية لاتزال إلى حد بعيد غير مدعومة بشيء ملموس. بمعنى آخر، إنتاج العملة الرقمية (لأجل إنتاجها فقط و الذي أصبح سهلاً نسبياً) أقرب لطبع ورق وتسميته عملة. المشكلة الأكبر أن هذا يفتح الباب لكثير من الدجل خصوصاً في عالم غير مفهوم كعالم الكريبتو.
تداعيات وجود بلايين الدولارات (على هيئة عملة FTT غير مفهومة القيمة، و صعبة البيع لتحقيق سيولة مالية على شكل دولارات) في Alameda تحوّلت لنار ساهم في أشعال شرارتها مؤسس Binance و تحوّلت بسرعة لبركان من التكهنات حول حقيقة تعسر الحالة المالية لـ FTX. كان السؤال الرئيسي: أين اموال الناس؟
سبّب هذا حالة هلع في السوق، لحق الهلع محاولة الناس سحب أموالهم و كانت FTX غير قادرة على ذلك!
ما سبب هذا؟
نصب مدموج بعدم المسؤولية و السذاجة والغباء.
هكذا ببساطة! هناك الكثير و الكثير من التداخلات المالية التي تعقد شرح الموضوع. لكن الفكرة الرئيسية هنا أنه وبعد مجموعة من القرارات المالية السيئة في إدارة الشركة واستثماراتها، أكثر ما كان واضحاً هو استخدام SBF أموال المودعين لتسديد عجوزات مالية هنا وهناك والقيام باستثمارات أخرى غير مسؤولة على هيئة كريبتو (ما يزيد تعقيد الموضوع أكثر).
استحالة سحب الأموال و تبعات الموضوع السلبية - الرياضيات قبيحة عندما لا تكون لصالحك! - أدى لانهيار منصة التداول التي أسسها FTX وتأثير الانهيار على شركات أخرى و على العملات الرقمية الأخرى وعلى عملة البتكوين نفسها (التي هبطت لما دون 16 ألف دولار).
و إن كان كل هذا لايكفي، أعلنت المنصة أنها تعرضت لعملية اختراق (حولها الكثير من علامات الاستفهام) بعد إعلان الإفلاس.
الخطير هنا أنه ومع العلم بأن ثروة SBF تناقصت بمعدل 94 بالمئة (من حوالي 19 بليون دولار إلى 900 مليون)، لا يزال SBF حراً في الباهاما بثروة محترمة حوالي 900 مليون. لكن، قد لايطول هذا ويفلس تماماً بناء على الأخبار التي تظهر كل يوم تقريباً.
أموالSBF هي أموال ناس استثمرتها في الكريبتو على أمل النمو. أموال وراءها قصص وأحلام. أحلام بنيت على إعلانات طنانة، و - مرة أخرى - تطبيل إعلامي غير مسبوق لشخص SBF. أموال بنيت على سردية الكريبتو.
الفضائح مستمرة، والدلائل على عدم نزاهة SBF ومنصته تتضاعف بمعدّل مذهل.
لم تنته القصّة إلى الآن. لكن ما حصل يرينا أن:
التكنولوجيا وتطورها على الصعيد المالي تبع سردية طوباوية ساذجة، استطاع بعضهم استغلالها استغلالاً شنيعاً و طبّل له الإعلام والسياسيون وكثيرون. استغل هؤلاء حالة “السكر" التي كان فيها الناس بسبب “انتعاش” الكريبتو وقاموا بما قاموا به برعونة شديدة. يرتبط بهذا أسلوب بناء الشركات وحالة النمو الدائم التي يدفع تجاهها الجميع.
نقطة مهمة هنا هو التطور التكنولوجي الذي أدى لـ “سهولة الاستثمار”، تمثل هذا بتطبيقات الموبايل و الواجهات الجذّابة و التسويق الشاطر. جعل هذا عمليّة الاستثمار أقرب للتسلية و هي بعيدة جداً عن ذلك، خصوصاً في عالم متقلب غير مفهوم كعالم الكريبتو. دخل كثير من الناس عالم الاستثمار هذا بسهولة وغرقوا فيه.
لا يزال للبعض أمل بالكريبتو كمفهوم، وتركيزهم على أن ثقة الناس بالأطراف الثالثة التي قامت بإدارة عمليات التبادل للعملات الرقمية (بدلاً من المحافظ الخاصة) هي من خرب المفهوم. (في هذا كثير من الصحة، وقليل من إمكانية التطبيقات العملية على الأقل حالياً). لكن أمام أخبار كهذه، لا يمنع أن يعاد التفكير بكل الكريبتو كمفهوم تكنولوجي وتطبيقاته لأنه من الواضح أن الشك في أشدّه. إن كان الهدف الرئيسي من البتكوين هو توفير بديل تداول للعملة العادية، فهي بعيد جداً عن ذلك الآن.
التشريعات لاتزال خجولة حول الموضوع. نمى تداول الكريبتو بشكل مذهل مؤخراً. وكمّ الأموال في السوق لايبرر تأخر التشريع.
كيف وثق كبار السياسيون و المستثمرون في الولايات المتحدة بهذا الشخص و على أي أساس؟! شيء يذكرنا بقصة إليزابيث هولمز مؤسسة Theranos وكذبها على المستثمرين وثقتهم العمياء بها. أمر غير مقبول (على الأقل نظرياً) في عالم الاستثمار الجريئ!
كل التعقيدات التي ذكرتها إلى الآن، تعود لكلمة واحدة فقط، تنطبق على الجميع.
جشع المؤسس
جشع المستثمرين
جشع الإعلام لقصص طنّانة و السياسيين لتبرعات الانتخابات
جشع حالة المال السهل التي يعيشها سوق الكريبتو حالياً.