مرحباً وأهلاً بكم من جديد في نشرة “بريد” التكنولوجية. أخبار الذكاء الصنعي وتطبيقاته تملئ المواقع والتلفزيونات والشبكات الاجتماعية وتسيطر على كل النقاشات. بعضها مفيد والكثير منها تخمين وبهرجة لينكد إن وتويتر.
ما علينا….
كان القرن العشرين قرناً ثورياً في التطور التكنولوجي المتسارع بعد حوالي ثلاثة قرون من التطورات الفكرية والفلسفية والعلمية والصناعية في أوروبا. كان بمثابة تتويج لكل هذه التطورات لكن بشكل جديد، ساهمت فيه التطبيقات العلمية والهندسية لهذه التطورات بتغيير الناس والمجتمع ودمج التكنولوجيا في حياتهم.
لكن هذا الاعتماد أتى بكمّ جيد من التحديات، حيث بدأت الأسئلة حول تأثير هذا على المجتمع والطريقة التي سيؤثر في جوهرها. شيء يشبه مانعيشه اليوم مع ازدياد الاعتماد على تطبيقات الذكاء الصنعي كالنماذج اللغوية الضخمة (LLMs).
في خضم كل هذا كان للعالم نوربرت وينر Norbert Wiener بصمة لن تزول في هذا المجال. نوربرت كان فيلسوفاً و عالم رياضيات، وكانت رؤيته تقر بالتأثير الواضح و المتزايد للآلة والتكنولوجيا عموماً وقدرتها على تغييره إضافة إلى المخاطر المؤصلّة في الموضوع و التعقيد الذي ستسببه.
“لا ينبع خطر الآلة على المجتمع من الآلة نفسها وإنما من استخدام الإنسان لها.”
نوربرت وينر
بصمة نوربرت الرئيسية هي تطوير مجال “السيبرانية Cybnernitics”. تعرف السيبرانية على أنها مجال دراسة التواصل والتحكم في الآلات والكائنات الحية، وفهمها “الصحيح” قد يكون مفيداً جداً كون أفكار نوربرت ومبادئه لاتزال منطقيّة إلى اليوم وقد تساعدنا على التعامل مع عالم أصبحت فيه التكنولوجيا مؤصلّة لدرجة لايمكن التفكير بالعيش دونها.
ولد نوربرت وينر في كولومبيا، ميسوري عام 1894 في الولايات المتحدة. قبل السيبرانية، تركزت دراسة وينر على الرياضيات وساهم في الكثير من النظريات المؤسسة لمجالات مثل الهندسة الإلكترونية والروبوتات. جدير بالذكر أنه منحدر من نسل االعالم الأندلسي الشهير “موسى بن ميمون” عبر والده.
كان وينر مؤمناً بقوة التكنولوجيا وتأثيرها على تغيير المجتمع، لكنه وكما ذكرت في المقدمة كان حذراً من التعقديات الناجمة عن الآلات والأنظمة التي تتحكم بها. ولعل أشهر أعماله بالنسبة لنا هي كتاب “استخدام البشر للبشر The Human Use of Human Beings” الذي نشره عام 1950 وسنعود له في النهاية.
من أين أتى كل هذا؟
خبرة وينر في التكنولوجيا أتت من خبراته السابقة في كثير من المجالات، مثل مساهمته في تطوير أسلحة مضادة للطائرات خلال الحرب العالمية الثانية والتي كانت من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تطويره لمجال السيبرانية كونها من الأسلحة التي تقوم على كثير من التعقيد في معالجة المعلومات والتصويب. زاد هذا اهتمام وينر في مجال “نظرية المعلومات” ومعالجتها، و التداخل بين هذا المجال مع كثير من المجالات الأخرى ولقاءه لكثير من العلماء. وصلت هذه اللقاءات للتعمّق بفكرة التحكم Control من مفهوم فلسفي.
السيبرانية Cybernitics؟
صاغ وينر عام 1947 (مع مجموعة من الباحثين أهمهم أرتورو روسينبلويث Arturo Rosenblueth) كلمة Cybernetics سايبرنتكس أو السيبرانية ليصف مجال دراسة التواصل و التحكم في الآلات و الكائنات الحية. تأتي هذه العبارة من العبارة الإغريقية “كيبرنيتس” والتي تعني “التوجيه” أو “الحاكم”. تصاغ بالعربية اليوم على أنها “سيبرانية” أو “سبرانية” أو “علم التحكم الآلي” أو “علم الضبط و التحكم” (والتي أجدها شخصياً من أفضل الترجمات). جدير بالذكر أن البادئة cyber مشتقة أيضاً من كلمة Cybernetics نفسها والتي أصبحت تستخدم أكثر اليوم للتعبير عن كل ماهو رقمي. (أصل العبارة كما نرى غير متعلق بالتكنولوجيا الرقمية بالضرورة)
تأتي صياغة وينر لهذه الكلمة من اعتقاده بتجسيدها لجوهر أبحاثه، والتي كانت ترتبط بكيفية التحكم في الأنظمة والتواصل معها لتحقيق أهداف محددة. الأمر أشبه بمحاولة سد فجوة بين العالمين الطبيعي والصُنعي عبر الوصول لفهم أوجه التشابه و الاختلاف بين أنظمة الطبيعة والأنظمة التي تنتج عن كل ماهو صُنعي. نشرت هذه الأفكار في كتاب Cybernetics: Or Control and Communication in the Animal and the Machine لوينر عام 1948.
من المهمّ جداً التأكيد على أن نظرية السيبرانية لاتفرق بين البشر والكائنات الحية الأخرى ولاحتى بين الحيوان والآلة. تُعامل السيبرانية كل ما له هدف بنفس الطريقة.
كلمة هدف مهمّة جداً هنا. لكن قبل تفصيل الفكرة ورائها علينا أن نتعرف بسرعة على الأنظمة المعقدة Complex Systems.
النظام المعقد (كما يتضح من الاسم) هو نظام يتكون من العديد من العناصر المترابطة التي تتفاعل مع بعضها بطرق غير مباشرة (عبارة غيرخطيّة nonlinear أدق للوصف). تفاعل عناصر النظام المعقد الغير مباشر يؤدي لكثير من السلوكيات التي يصعب التنبؤ أو التحكم بها. الطقس على سبيل المثال هو نظام معقد، البشر و كل الكائنات الحية هي أنظمة معقدة بشكل أو بآخر، دماغنا هو نظام معقد ضمن نظام معقد. دراسة الأنظمة المعقدة مجال قديم حديث ومؤصّل في دراسة الرياضيات ويسبق السيبرانية.
عودة إلى السيبرانية الآن.
ترى السيبرانية بأن الأهداف مركزية لدراسة هذه الأنظمة المعقدة. جوهر هذه الاهداف قد يكون بسيطاً ومحدداً مثل الانتقال من نقطة أ إلى نقطة ب، أو قد تكون أكثر تعقيداً وتجريداً مثل دراسة محفظة مالية مثلاً.
من مساهمات السيبرانية في تطوير فهم الأنظمة المعقدة هو اعتمادها ودراستها لفكرة الـ Feedback أو مايمكن تسمتيه بـ ”البيانات المرجعة” أو حتى “التغذية الراجعة”، تلك البيانات التي تصلنا عن أداء نظام معين ونعتمد عليها لتعديل أداء هذا النظام. تعتبر دراسة البيانات المرجعة مهمة جداً في دراسة البيانات المعقّدة، وتسمح دراستها بشكل دائم لتصحيح أداء النظام استجابة للظروف والشروط المتغيرة.
عودة إلى نظرة السيبرانية لكل شيء وفق رؤية الأنظمة المعقدة وعدم التفرقة بين البشر والكائنات الحية والآلات. تكتب آنا بيلار Anna Pillar من مجلة Turning المتخصصة في الذكاء الصنعي والإعلام الجديد عن السيبرانية عبر مثال مبسط:
لكن ماهي الآليات التي تظهر في البشر والحيوانات و الآلات؟ هي حلقة تقوم على الفِعْل Action و الاستشعار Sensing والمقارنة Comparing. ترى السيبرانية بأن هذه الحلقة موجودة في أي نظام له هدف. لنأخذ على سبيل المثال وضع خبزة في التوستر (محمصة الخبر). نأخذ نحن كبشر الخبز ونحركه باتجاه التوستر (فعل)، ثم عبر عيوننا نستشعر إذا ماكان مكان يدنا مناسباً لوضع الخبزة بالشكل الصحيح في المحمصة. إذا كان الجواب نعم نضعها ونضغط زر التحميص. إذا كان الجواب لا (نتأقلم) مع الحالة ونحرك يدنا للمكان السليم. مانقوم به دائماً هو مقارنة مانستشعر به عبر حاسة البصر بهدفنا.
المثير للاهتمام هنا هو النظر للموضوع من وجهة نظر المحمصة نفسها. عندما نضغط زرها تبدأ المحمصة فعلها بتحميص الخبزة. ثم عبر آليتها الكهربائية تستشعر إذا ماكان الزمن الذي مر مناسباً لتحميص الخبزة بالشكل المطلوب لتنهي العملية (الوصول للهدف).
نفس الآلية!
هنا تاتي فكرة التواصل Communication كجوهر في السيبرانية والتي تفسر ولعها بدراسة الـ Feedback أو البيانات المرجعة. لأنه ووفقاً لها، يحتّم على النظام الوصول للهدف السليم وجود تواصل من نوع ما. وهو ماتدرسه السيبرانية بتوسع بين كل عناصر الأنظمة أينما كانت.
من المهم التركيز هنا على أن دراسة التواصل Communication وفقاً للسيبرانية لاتقوم على المعنى الحرفي أو الدراسة الإنسانية للكلمة (وإن كان هناك بعض المجالات التي استعارت من فهم السيبرانية وتطبيقها على أمور إنسانية كالعلاقات). جوهر السيبرانية يقوم على الدراسة الرياضية للتواصل والتي تقوم بدورها على مجموعة من النظريات مثل نظرية المعلومات Information Theory و نظرية التحكم Control Theory و معالجة الإشارة Signal Processing (المعتمدة في الإلكترونيات) ونظرية الشبكات Network Theory. السيبرانية مجال قام على تعاون بين مجموعة من المجالات وفهم التواصل هذا وطبيعته له جذور في البيولوجيا و الإلكترونيات والرياضيات.
لكن وكغيرها من المجالات، السيبرانية ليست فوق النقد. واحد من أهمها هو دفع المجتمع باتجاه “الاختزالية Reductionism” بحسب الفيلسوف هربرت ماركوزه. الاختزالية هي المبالغة في التبسيط وفهم الأمور على أنها مدخلات ومخرجات فقط. هناك أيضاً وجهة نظر للفيلسوف إيڤان إيليتش Ivan Illich الذي جادل بأن السيبرانية تفترض الحتمية التكنولوجية التي ترى التكنولوجيا محركاً رئيسياً للتغير الاجتماعي، متجاهلة العوامل البشرية و المجتمعية. يرى إيفان عيباً جوهرياً في النظر لكل شيء على أنه “نظام”. وفقاً له، هذا تغيير جذري في النظر للبشر وابتعاد عن التفكير بطبيعتهم.
من الجدير بالذكر أن أفكار وينر نفسها اتخذت منحى سوداوي لاحقاً حول علاقة البشر بالآلات، وهي أفكار أشار لها في كتابه The Human Use of Human Beings. حيث ناقش أن زيادة كفاءة هذه الآلات في القيام بأي عمل، قد يبدل دور البشر ويؤدي لبطالة وتغيير اجتماعي جوهري، خصوصاً إذا تم الاعتماد على الآلة بهدف استبدال البشر كهدف رئيسي أو الاعتماد عليها في الحروب. يقول وينر في الكتاب (الذي يعود لـ 1950 مرة أخرى):
"سنعيش في المستقبل صراعاً يتطلب نضالاً مع قيود ذكائنا، وليس أرجوحة مريحة نستلقي فيها في انتظار الروبوتات العبيد لدينا."
يندرج كل هذا حقيقة تحت نقاش الحتمية التكنولوجية الذي نعيشه اليوم والذي بدأ مع بداية الثورة الصناعية (وقبل ذلك حتى) واعتماد البشر المتزايد على الآلات. هو نقاش طويل ومعقد، يبدو لي اليوم أن الدافع الاقتصادي في الاعتماد على التكنولوجيا جوهري وسيبقى السبب الرئيسي لأي تغيير تكنولوجي أو ثقافي في أي مجتمع بغض النظر عن تبعاته.
لم تعد السيبرانية مجال دراسة واضح المعالم كما كانت في منتصف القرن الماضي، ولو أن مخرجاتها لاتزال موجودة في كثير من دراسات التكنولوجيا المختلفة كدراسات الذكاء الصنعي وأخلاقياتها أو ثقافة تطوير البرمجيات أو الفلسلفة والرياضيات.
قد يتوجب علينا في أي نقاش تكنولوجي أن نقبل أنه نقاش مليئ بالأمل والسوداوية في نفس الوقت وهي حالة تعيشها البشرية منذ اكتشاف النار.