في منتصف عام 2012، وبعد ازدياد ملحوظ في استخدام الهواتف الذكية، ظهر على منصة كيكستارتر للتمويل الجماعي مشروع لفت نظر ملايين. ساعة ذكية لأول مرة تعمل بتقنية الحبر الإلكتروني ويمكن ربطها بالموبايل تحمل اسم Pebble.
نجح المشروع نجاحاً ساحقاً وأثبت أن الحماس للتكنولوجيا القابلة للارتداء موجود وبشدة. كنتُ من أوائل مقتني هذه الساعة ولم تسعني فرحة استخدامها و وجود تنبيهات الموبايل والرسائل على رسغي.
تحوّل هذه كلياً، بعد أشهر من التجربة السعيدة، عند مشاركتي وجبة الغذاء مع صديق جديد أشار بامتعاض إذا ما كنت مشغولاً ولدي شيء آخر للقيام به. لم أفهم سبب ذلك لحظتها إلا بعد أن استرسل وقال: تنظر لساعتك طوال الوقت!
اليوم وبعد أن أصبحت الساعات الذكية - خصوصاً ساعة آبل - من المسلّمات في يد ملايين، قد تكون عادة النظر إلى الساعة كل حين وحين مقبولة أكثر. زمن أصبح فيه استراق النظر للموبايل عادة لدى الجميع و محط سخط لدى الجميع أيضاً.
علاقتنا مع التنبيهات و هذه الأجهزة إشكالية عموماً، فهي مفيدة عند الضرورة لكنها واحدة من أسباب إدماننا للتكنولوجيا الذكية ومصدر للهمّ والقلق. دون أن نعرف لماذا نحبّها و نكرهها بالضبط.
وجدت ورقة بحثية من جامعة لايدن University of Leiden تعود لعام 1990 أن مواقف الناس تجاه التكنولوجيا غير مستقرة و يمكن أن تتأثر بسهولة بالطريقة التي تُقدم بها أي التكنولوجيا. مثال عملي هنا هو تقبل الناس لجهاز آي فون ونجاحه، مقابل عدم تقبّل نظارة غوغل Google Glass مثلاً. أو نظرة المجتمع السلبية لمن يرتدي سماعات بلوتوث (عند بدايات الألفية)، المختلفة تماماً عن النظرة الحالية.
قد يكون الوقت هو عامل التقبّل الرئيسي هنا.
عدم استقرار نظرة الناس لأي تكنولوجيا جديدة هو جوهر لفهم “حالة الإغراق التكنولوجي” التي نعيشها اليوم. أذكر تماماً أحاديث كثيرين مع بداية انتشار الهواتف الذكية و كيف أنهم أفضل حالاً دونها. لا يفهموا ولع الناس بها ويجدوا فيه مضيعة للوقت، لأن الهاتف - حسبهم - “خُلق للاتصال فقط، لا أكثر!” ولا حاجة للبرامج و الإنترنت و الفيديوهات!
لم يطل الأمر كثيراً و التصق الجميع بهواتفهم!
كيف تطورت هذه العلاقة؟
واحد من الأسباب المقنعة، هي أن هذه الهواتف الذكية (وربما عموم الأجهزة القابلة للارتداء Wearables كالساعات) هي من أكثر الأغراض الشخصية و الحميمية التي عرفتها البشرية، وهي أجهزة يلعب زمن اقتنائها و قدرتها على التشبيك بين الناس عاملاً رئيسياً في تطور العلاقة معها.
يقول توم غودوين Tom Godwin في كتابه Digital Darwinism:
يظهر التوتر مباشرة في اللحظة التي يفتح فيها أحدهم هاتفه المقفول و يعطه لشخص آخر. أصبحت الهواتف أكثر الأشياء خصوصية في حياتنا.
- - -
تتعرف هذه الشاشات علينا من اللحظة التي يبدأ استخدامنا لها، تعرف أيضاً ما الذي قد نقوم به عند الاستخدام، و من نعرف. تعرف الطقس، تعرف اليوم، تعرف مزاجنا و ما نحب.
لا يمكن أن تبقى علاقتنا “محايدة” مع أجهزة كهذه، على عكس علاقتنا مع إبريق الشاي الكهربائي مثلاً! أجهزة تمشي معنا أينما ذهبنا وتعرف عنا عبر برامجها و حسّاساتها أكثر تفاصيلنا حميمية.
هذا بالضبط، مايجعل حركة الابتعاد عن التكنولوجيا والهواتف الذكية خصوصاً من أكثر الحركات انتشاراً. وصل “الصيام التكنولوجي” هذا للتوصية بعدم أخذ الهاتف المحمول لغرفة النوم و تركه بعيداً.
لا يزال الموضوع صعب لمئات الملايين، وقد يكون مستحيلاً.
لماذا؟
أرى شخصياً بأن طبيعة العلاقة التي بنيناها مع الهاتف على مر السنين، لعبت دوراً رئيسياً في تحويلها لما يشبه الشريك. شريك تجمعنا به علاقة معقدة. نحبّه و نكرهه، هو تارة مسلّ وتارة ممل، تارة مصدر معلومات مهم، وتارة مصدر كرب. نحب التقاط الصور عبره و نخاف من كاميرته عندما يستخدمها آخرون.
العامل الرئيسي هنا هو الجهاز و ليس تطبيقاته. (ليس إنستاجرام، ليس تيك توك، ليس الشبكات الاجتماعية، كلّها فروع)
يرى البعض أننا وصلنا لمرحلة اللاعودة.
يقول الناقد الأكاديمي نيل بوستمان Neil Postman في إحدى محاضراته الشهيرة من عام 1998 حول تأثير التكنولوجيا على الناس:
تصل أي تكنولوجيا حولنا لمرحلة الخطر عندما تتحول لما يشبه الأسطورة. الأمر خطير لأنه نصل في هذه المرحلة لتقبّل التكنولوجيا كما هي دون سؤال، دون قدرة على التغيير أو التحكم. إذا اقترح أحدهم على أي مواطن أمريكي بأن على البث التلفزيوني أن يبدأ 5 مساء و ينتهي 11 مساء أو أنه لا يجب أن يكون هناك إعلانات على التلفزيون، سيقابل هذا بالتسخيف! ليس لعدم قبول الاقتراح فكرياً بل لأنه سيبدو غير طبيعي! كمن يقترح بأن يكون شروق الشمس 10 صباحاً بدل الساعة 6 صباحاً.
قد يكون هذا لمواطن الأمريكي اليوم وضعفه أمام تكنولوجيا بسيطة كالتلفزيون عام 1998 هو المواطن العالمي أمام الموبايل. الحالة الأسطورية التي وصلت إليها التكنولوجيا بالفعل، جعلت أي حياة دونها تبدو غير منطقية على أقلّ تقدير.
لا أرى الأمر شخصياً بسوداوية. ما يتطلبه زمننا هو نوع من “الوعي الذاتي” حول هذه الأمور، لأنه كاف برأيي لتقييد تلك السيطرة، لا يتطلب الأمر سوى إدراك اللحظة التي نشعر فيها بسيطرة شيء ما على حياتنا و التعامل معه، حتى لو كان ذلك متقطّعاً على فترات. ضع الهاتف جانباً وقاوم العودة إليه. إحذف بعض التطبيقات، عش فترة دونها و عُد لها لاحقاً. ألغ التنبيهات إلا الضروري جداً جداً منها. الصيام التكنولوجي قد يكون حلاً، لكنه ليس نهائياً. الصيام التكنولوجي السليم المفيد و الواقعي ربما هو صيام متقطّع.
مهما تقدمت التكنولوجيا و مهما تطورت، الهدف هنا هو تجريدها من صفة الأسطوريّة. هي ليست سحراً!
لا أزال أرتدي ساعة ذكية ولكني ألغيت كل التنبيهات.
لا زلت أستخدم الهاتف قبل النوم لكنني لا أستخدمه أبداً عند الاستيقاظ!
و أقاوم - كثيراً - استراق النظر إلى هاتفي عندما أجتمع مع أي أحد.