بعد إعلان شركة ميتا عن أحدث إصداراتها مع نظارة الواقع الافتراضي Meta Quest Pro و ميزاتها الجديدة و سعرها اللاذع (1500 دولار) عاد نقاش الواقع الافتراضي إلى الساحة من جديد حول إمكانية نجاح الفكرة (من ميتا أو غيرها) و التساؤل حول استخدمات الجهاز التي ستجعله منصة حوسبة رئيسية لملايين بشكل مشابه للنقلة التي حدثت بين الحواسب الشخصية و الموبايل. هل هي التسلية والألعاب (الغالب حالياً)، أم الإنتاجية و العمل كتطبيقات الاجتماعات أو الشاشات الافتراضية (كما في الصورة) أم التمارين الرياضية (التي يرى كثيرون أنها واعدة) أم التعليم والتدريب أم كلها جميعاً؟
تعمل ميتا جاهدة على رؤيتها عن الواقع الافتراضي و من غير الواضح بعد كيف ستتحقق، لكن الواضح ان الشركة جدية في استثماراتها البحثية التي وصلت لحوالي 15 بليون دولار العام الماضي فقط.
أتجنب - عن قصد - هنا الحديث عن عبارة الميتاڤرس الطنّانة. لماذا؟ لأنه بصراحة صعب التعريف وغير واضح بعد، خصوصاً في مرحلته الحالية التي تتداخل فيها التعريفات سواء أكانت تسويقية أم فارغة. هل الأمر مقتصر على عوالم لا يمكن الوصول لها إلا عبر الواقع الافتراضي كحال النظارات؟ هل يدخل الواقع المعزز في المعادلة؟ هل الانغماس Immersion و التواصل الاجتماعي مهم؟ لماذا لاتطبق إذاً على عوالم كمبيوترية اجتماعية مفتوحة و ثلاثية الأبعاد مثل روبلوكس Roblox التي وصل عدد مستخدميها اليومي لـ 57 مليون مستخدم أو فورتنايت Fortnite التي وصل عدد لاعبيها لـ 80 مليون شهرياً واستضافت حفلاً خرافياً في 2020 للرابر ترافيس سكوت أنصح بمشاهدته بشدة! من يتحكم بالوصول لكل هذا؟
كلها شركات مختلفة حالياً.
المهم في حالة الميتاڤرس، هو أن نعرف أنها عبارة “خيال علمي” ظهرت للمرة الأولى في رواية Snowcrash الثورية للروائي نيل ستيفنسون وكانت أقرب لفكرة العوالم الافتراضية البديلة. بالنسبة لي، وعلى الأقل في هذه الفترة، الميتاڤرس هو الإنترنت.
عودة إلى نظارات الواقع الافتراضي…
كنت من أول المقتنين شخصياً لنظارة الواقع الافتراضي Oculus - الشركة التي اشترتها فيسبوك و حوّلت اسمها لـ ميتا كويست - منذ 2012 تقريباً. لا أخفي أن تجربتي لأول إصدار من النظارة كانت مليئة بالدوار و الصداع! حافظت الشركة على تطوير النظارة شيئاً فشيئاً حتى وصولها إلى مرحلة متطورة ومقبولة جداً استطعت بعدها قضاء 40-45 دقيقة دون مشاكل مع جهاز ميتا كويست 2.
لكن المشكلة، ماذا أفعل؟ كلما أستخدم الجهاز، أشعر بالملل و الوحدة بعد 30 دقيقة!
نعم، هناك بعض الألعاب الجماعية هنا وهناك وهي مسليّة. هناك Beat Saber و بعض الألعاب الأقرب للتمارين الرياضية و لايزال مجال التمرين عبر نظارات الواقع الافتراضي يتطور باستمرار (لم، و قد لن، يستطع أحد حلّ مشكلة التعرّق أثناء التمرين وتأثيره على النظارة!)
صحيح أن نظارات الواقع الافتراضي تتطور باستمرار من الناحية التقنية. لكن فكرة “التطبيق القاتل” لا تزال محط جدل ونقاش.
ما التطبيق القاتل؟
التطبيق القاتل هو ترجمة - ركيكة لاشك- للعبارة التسويقية Killer App التي انتشرت كثيراً مع بدايات انتشار أجهزة الحواسب الشخصية. واحد من أفضل الأمثلة عن ذلك كان تطبيق VisiCalc spredsheet لجهاز Apple II في بدايات الثمانينات من القرن الماضي. كان التطبيق أشبه بتطبيق إكسل اليوم ولم يكن متاحاً على أي كمبيوتر شخصي آخر لحوالي السنة. كان سعر التطبيق 100 دولار (على جهاز آبل الذي تراوح سعره من 2000 لـ 10000 دولار!).
إذاً الوصول لهذا التطبيق القاتل هو ما سينجح منصة حوسبة جديدة مثل نظارات الواقع الافتراضي. لنسمّه التطبيق المثالي، التطبيق الذي سيحافظ على كثيرين مداومين على استخدام الخدمة أو الجهاز. قد يكون هذا برمجية أو استخداماً ما.
غرف افتراضية
تغيرت نظرتي، بشكل جوهري ربما، آخر العام الماضي (هو الوقت نفسه الذي ازدادت فيه مبيعات ميتا كويست 2 بشكل كبير تزامناً مع عطلة الميلاد)، اكتشفت وقتها تطبيق Bigscreen VR للمرة الأولى (علماً أن التطبيق ظهر في 2016).
ما هو؟
باختصار التطبيق عبارة عن برنامج تشات صوتي في الواقع الافتراضي. يمكن للمستخدم عبره الحصول على حساب و نموذج للشخصية ثم الانضمام لغرف أو إنشاء غرفة خاصة. لـ Bigscreen ميزة تتيح ربطه بالحاسب الشخصي (على ويندوز) بحيث يمكن للمستخدم أن يشارك شاشة جهازه لأي غرض كان.
ما الذي يجري في Bigscreen؟
كل شيء! غرف نقاش عام، مشاهدة برامج تلفزيونية بشكل جماعي، مشاهدة مصارعة، أغاني، نقاشات مدعومة بروابط و مقاطع فيديو، قراءة الطالع، ألعاب، شجارات افتراضية، إلخ. صحيح أنها نقاشات دائمة المقاطعة من انتهازيين يستغلّون الهوية المجهولة، أو من مراهقين يرمون الطماطم على الجميع (ميزة من ميزات التطبيق) أو غير ذلك.
إليكم بعض الأمثلة التي سجلتها من تجربتي الشخصية.
Bigscreen VR ليس الوحيد طبعاً، فلميتا تجربتها الخاصة التي تحاول جاهدة إنجاحها عبر تطبيق عوالم هورايزن Horizon وغيرها الكثير من التطبيقات المنتشرة الآن كـ VR Chat مثلاً. بعضها يدمج التشات مع الألعاب وبعضها يحاول أن يكون جدياً لأجل عقد الاجتماعات أو التعليم أو غير ذلك. كلها تحاول إيجاد عدد مستخدمين يسمح لها بالنمو و الوصول لحد يجعلها قادرة على خلق “بيئة Ecosystem” تستفيد منها مالياً بشكل أو بآخر.
فكرة المشاركة الجماعية للقيام بأي شيء، قد تكون التطبيق المثالي في الواقع الافتراضي. أجد نفسي متجهاً للتطبيق، كلما استخدمت النظارة.
يتحدث كتاب The Metaverse Handbook: Innovating for the Internet's Next Tectonic Shift عن الموضوع بإسهاب، لكن الأهم لحالتنا:
لن تنجح عوالم الواقع الافتراضي الاجتماعية في نهاية المطاف دون عدد كبير من مستخدمين. هذا الكتاب بأكمله (ومستقبل ميتا) محط شك إذا لم تكن هذه العوالم جذابة للناس. لهذا السبب، نحن بحاجة لمدخل يسّهل تجربة هذه العوالم ويجعلها جذّابة. أحد أفضل الأمثلة هي تطبيقات BigScreen و VRChat، التي تسمح - وبسهولة نسبية - إنشاء مساحات وتجمّعات افتراضية واستضافة مستخدمين آخرين عبرها.
من جهة أخرى وفي بحث قامت به وكالة Neurons (لحساب فيسبوك) عن قيمة التواصل الاجتماعي عبر الواقع الافتراضي، وجدت الشركة أن الجهد المعرفي Cognitive Demand أثناء إجراء محادثات في الواقع الافتراضي كان مساوياً للمحادثات وجهاً لوجه، في حين أن بحثاً سابقاً للشركة وجد أن دردشة الفيديو العادية يمكن أن تتطلب كثيراً من الجهد المعرفي. جهد، أعلى من القيمة المثالية “sweet spot” لهذا النشاط. قامت الدراسة بناء على معايير: الانتباه و الدوافع و الجهد المعرفي.لا يزال الكثير من البحث مطلوباً لتفاصيل هذه المحادثات وأحداثها، لكنها بداية.
يجادل البعض حتى، بأن التجارب الاجتماعية هي مدخل رئيسي لجعل منصات التواصل عبر الواقع الافتراضي المختلفة مربحة مالياً عبر الاستفادة من التبادل الرقمي القائم على الـ NFTs و العملات الرقمية. في هذا كثير من التخمين دون شك، ونظرة مستقبلية طوباويّة تتطلب “صرف الكثير من الأموال” قبل أن تتحول للربحية وتغفل الكثير من التحديات الحقيقية.
تحديات كثيرة سأتحدث عنها لاحقاً بالتفصيل. منها ما هو جسدي، كجهد ارتداء النظارة واستخدامها كلما أردنا الدخول لهذه العوالم. ومنها ما هو مالي، استثمارات ضخمة لا تناسب المردود المادي. و منها ماهو اجتماعي، معظم ما في الثقافة العامة الآن هي تصورات متناقضة، إما مشؤومة حول مستقبل تسطير فيه النظارات هذه على خيال الناس و تعطّل حياتهم الاجتماعية أو متفائلة بشكل ساذج.
و في هذا أيضاً كثير من التخمين.