أهلاً بكم من جديد 👋🏼
تعتمد هذه السلسلة على مقالة مرئية طويلة قمت بإعدادها قبل عام ونصف تقريباً على يوتيوب. سأقوم في هذه السلسلة بتوسيع بعض الأفكار الرئيسية حول تاريخ واجهة المستخدم الرسومية (Graphical User Interface)، متعمقًا في أصولها، ولماذا أصبحت الأمور على ما هي عليه، والتناقضات الكامنة فيها عموماً. إذا كنت/ي تفضل/ي مشاهدة المقالة المرئية باللغة الإنكليزية (مع موسيقى قد لاتعجب الجميع 😅 لكن بفيديوهات رائعة)، يمكن المشاهدة من هنا.
مقدمة
استغرق الأمر ما يقارب الأربعين عاماً لتتشكل الأعراف والاتفاقيات التي تحكم التفاعل بين الإنسان والحاسوب. اليوم، يأتي كل حاسوب تقريباً مزوداً بلوحة مفاتيح وفأرة (أو لوحة تتبع trackpad) كوسائل إدخال أساسية، بالإضافة إلى شاشة تعرض أنظمة تشغيل تقوم على النوافذ والأيقونات والتطبيقات. لماذا ذلك؟
تعتمد معظم الأنشطة اليومية على الحاسوب—مثل تصفح المواقع واستخدام البرمجيات وملء النماذج—على ما يُعرف في عالم تطوير البرمجيات باسم واجهة المستخدم الرسومية (GUI)، والمبنية على نموذج (WIMP) والذي يعني النوافذ (Windows)، الأيقونات (Icons)، القوائم (Menus)، والمؤشرات (Pointers).
تم تكييف هذا النموذج على الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، مع تعديلات تتناسب مع حجم الشاشة والتفاعل باللمس (مثل الإيماءات gestures التي تستبدل الفأرة ولوحة المفاتيح، رغم أن مبادئ WIMP تعود للظهور في بعض هذه الأجهزة مثل iPad وبعض هواتف Samsung).

وعلى الرغم من أن معمارية الواجهات القائمة علىWIMP لا تزال موجودة، توهم "الجماليات المتطورة" والتحسينات التدريجية في كل بيئة أو نظام تشغيل— من الويب وmacOS وWindows إلى iOS وAndroid— بأن لكل بيئة إطاراً تفاعلياً فريداً.
جوهرياً، لم يتغير الكثير.
الواقع أن واجهة المستخدم الرسومية (GUI) هي تطور حديث نسبياً. ظهرت نتيجة لتاريخ معقد تشكل من خلال الصراعات العالمية، والأبحاث الحكومية وأبحاث الشركات، وتطور مفاهيم غاية الحاسوب ومستخدميه، بالإضافة إلى مساهمات مفكرين رؤيويين.
اليوم، مع بروز الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، تقف واجهة المستخدم الرسومية في لحظة مفصلية. فهي تتطور باستمرار لتتكيف مع الأجهزة والتقنيات المختلفة (الحواسيب، الهواتف، الذكاء الاصطناعي التوليدي، نظارات الواقع الافتراضي، السماعات الذكية، النظارات الذكية، إلخ) ووسائل التفاعل (لوحة المفاتيح، الفأرة، الصوت، وحتى الموجات الدماغية).
يُعد الذكاء الاصطناعي التوليدي ذو أهمية خاصة كونه يعيد تعريف التفاعل (أو هكذا يرى كثيرون). فالاعتماد على الأوامر اللغوية الطبيعية أو التوجيهات (prompts) بات يُمكّن المستخدمين من تنفيذ مهام معقدة مثل تلخيص البريد الإلكتروني أو تحرير الصور والفيديوهات. وهناك العديد من المشاريع والشركات الناشئة مثل Mainframe وCommon Knowledge، باستكشاف بدائل لهذا التفاعل أو محاولة إعادة تصميمه كليًا.
باتت أسئلة مثل: "إذا كان بإمكاننا ببساطة أن نطلب من أجهزتنا تنفيذ المهام، فما جدوى لوحة المفاتيح والفأرة؟ ماذا لو تخلينا عن الأزرار تماماً؟ ما فائدة سطح المكتب أو شاشة iPhone الرئيسية (SpringBoard)؟" أسئلة شائعة، مع كم هائل من المقترحات لحلول جديدة.

من جهة أخرى، الجمود الظاهري في تطور واجهات المستخدم قبل الذكاء الاصطناعي التوليدي كان مختَلَقاً إلى حد كبير. فلم تتوقف محاولات استكشاف وسائل تفاعل بديلة حقيقة. ويُعد عمل Bret Victor مثالاً بارزاً في هذا المجال.
وسواء أكان عملنا في التطوير أو التصميم أو إدارة المشاريع أو حتى الاستخدام اليومي العادي، من الطبيعي أن نتساءل: كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ ماذا كسبنا وماذا خسرنا على طول الطريق؟ كيف تُشكّل الاستعارات البصرية لواجهة المستخدم الرسومية—مثل النوافذ، الأيقونات، القوائم، المؤشرات، واجهات اللمس—تفاعلنا مع التكنولوجيا؟ ما هي الإمكانيات الأخرى التي وُجدت؟ ولماذا ازدهرت أفكار معينة بينما اندثرت أُخرى؟ ولماذا هي "لعنة رائعة" (كما اخترت أن أسميها)؟
هذه السلسلة هي استكشاف شخصي لتاريخ وتأثير واجهات المستخدم الرسومية. ليست تأريخاً شاملاً للحوسبة أو حتى للواجهات، بل هي تحليل لأصولها وتعقيداتها وربما تناقضاتها الجوهرية.
أرجو أن تصبروا معي قليلًا بينما أعود إلى البدايات، لأن، وكما هو حال كل ما مسّته التكنولوجيا الرقمية الحديثة، تبدأ الحكاية مع "الحاسوب".
لا مهرب من التاريخ!
مرة أُخرى، هذه ليست دراسة تاريخية بحتة عن الحواسيب، لكن فهم هذا التاريخ ضروري لفهم كيفية نشوء واجهات المستخدم.
كان الدور الأساسي للحاسوب هو إجراء الحسابات، واستغرق الأمر جهداً كبيراً لتغيير نظرتنا لهذه الآلات من أدوات للعمليات الحسابية البسيطة إلى أجهزة قادرة على أداء أي مهمة رمزية تقريباً.
وقد تطلب ذلك إعادة تعريف معنى "الحوسبة" ذاته واستكشاف الإمكانيات التي قد تفتحها هذه الأجهزة.
في الأصل، كان مصطلح "حاسوب computer" يُطلق على الأشخاص الذين يقومون بالعمليات الحسابية يدوياً، وهو دور له جذور تاريخية عميقة. لكن هذا تغيّر مع بروز الابتكارات الميكانيكية. من الشخصيات المحورية في هذا التحول: تشارلز باباج (Charles Babbage) الذي تصوّر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر آلةً تُعرف باسم "المحرك التحليلي" (Analytical Engine).
تخيل باباج آلة حسابية متعددة الأغراض.
وعلى الرغم من أنه كرس أكثر من ثلاثة عقود لتطويرها، لم يشهد باباج إتمام هذه الآلة في حياته. وقد تم بناء بعض أجزائها بعد وفاته، بما في ذلك جهود ابنه.
وفي هذا السياق، تُعد مساهمات آدا لوڤلايس (Ada Lovelace) لا غنى عنها. فقد تعاونت عن كثب مع باباج، وترجمت مقالة عن "المحرك التحليلي"، وأرفقتها بملاحظات خاصة بها تجاوزت النص الأصلي بثلاثة أضعاف. تُعتبر ملاحظاتها، التي تتضمن خوارزمية لحساب أرقام برنولي باستخدام المحرك التحليلي، أول "برنامج حاسوب" في التاريخ.
رأت لوڤلايس أن الآلة يمكنها التعامل مع أي محتوى يمكن تمثيله رمزياً—ليس فقط الأرقام—بما في ذلك الموسيقى والفن. تصورت آلة متعددة الأغراض، مما جعلها تُعد من أوائل مبرمجي الحاسوب وأحد رواد مجال الحوسبة.
في تسعينيات القرن التاسع عشر، كان جهاز هيرمان هولريث (Herman Hollerith) للتبويب (Tabulating Machine) مهماً جداً. أعاد توظيف البطاقات المثقوبة (Punch Cards)، المُستخدمة سابقاً في أنوال جاكار للحياكة (Jacquard Looms)، لأغراض حسابية. كانت هذه البطاقات—وهي أوراق صلبة مثقوبة تمثل بيانات كالعمر والموقع—بمثابة وسيلة إدخال، تشبه من حيث الوظيفة استخدامنا الحالي للفأرة ولوحة المفاتيح.
في عام 1936، وضع آلان تورنغ (Alan Turing) الأساس النظري للحوسبة الحديثة بتقديمه مفهوم "آلة تورنغ" (Turing Machine)—وهي نموذج تجريدي بسيط يُعالج رموزاً على شريط وفقاً لمجموعة من القواعد (لنتأمل فكرة البرمجة هنا). كما بيّن أن "الآلة العالمية" (Universal Turing Machine) يمكنها تنفيذ أي عملية حسابية إذا زُودت بالبرنامج المناسب—وهي فكرة محورية في تصميم الحواسيب القابلة للبرمجة.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية
خلال الحرب العالمية الثانية، اختُبرت أفكار تورنغ النظرية من خلال "آلة بومب" (Bombe)—وجهاز مهم لفك الشفرات والتحقق من صحة نظرياته. نتحدث عن أولى الكمبيوترات الميكا/إلكترونية هنا.
كانت هذه الحواسيب الميكانيكية والإلكترونية المبكرة، مثل أجهزة "بومب" و"كولوسوس" (Colossus) البريطانية، مخصصة عادة لمهام محددة كفك الشيفرات. أما الحاسوب الأمريكي ENIAC، الذي بدأ بناؤه في 1945 وعُمل به بعد الحرب، فقد مثّل تحولاً نحو مفوم جديد: الحوسبة متعددة الأغراض.

أنتجت الحرب إرثين تقنيين مهمين: إدراك جديد لإمكانات الحوسبة (عبر فك الشفرات)، واهتمام مستدام بجوانب التصميم السلوكية، خاصةً في مجال "علم نفس التصميم الهندسي" (Engineering Psychology). وقد ظهر هذا المجال لمعالجة مشاكل التصميم في المعدات العسكرية، وسعى لمواءمة الإنسان مع الآلة، وتحسين التدريب، وتصميم أدوات أكثر فاعلية (وهو ما مهد لظهور تصميم تجربة المستخدم).
ثم ظهرت الشاشة…
تزامنًا مع تطورات أخرى، تطورت تقنية أنابيب الأشعة المهبطية (CRT) خلال الحرب العالمية الثانية. بدأت هذه التقنية مع كارل فرديناند براون عام 1897، لكنها أصبحت أساسية في أنظمة الرادار في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وقد وفّرت لأول مرة عرضاً إلكترونياً لحظياً للبيانات الواقعية، مما مهد لظهور الحوسبة المعتمدة على الشاشات في خمسينيات القرن الماضي.
وكان أنبوب ويليامز (Williams Tube)، أحد أوائل وسائل تخزين البيانات الإلكترونية، مكوناً أساسياً في حواسيب مبكرة مثل "مانشستر بيبي" (Manchester Baby) الذي بدأ العمل عام 1948.
بعد الحرب: ڤانيڤار بوش وآلة الميماكس (Memex)
بعد الحرب، وجّه المهندسون والعلماء تركيزهم نحو تحديات مدنية، أبرزها الانفجار المعلوماتي.
كان ڤانيڤار بوش (Vannevar Bush) في قلب هذا التحول، خاصة بمقالته الشهيرة عام 1945 بعنوان "كما قد نفكر" (As We May Think).
تخيّل بوش جهازًا يُسمى "ميمكس" (Memex)، وهي آلة نظرية لتحسين الذاكرة ومعالجة المعلومات. كان من المفترض أن تستخدم الميكروفيلم—وهو وسيط تخزين متطور آنذاك—لتنظيم واسترجاع المعلومات بسرعة ومرونة. ويُعتبر هذا الجهاز بمثابة سلف بدائي لمحركات البحث الحديثة.
تخيّل جهازًا مستقبليًا للاستخدام الفردي، أشبه بملف ومكتبة شخصية آلية. يحتاج هذا الجهاز إلى اسم، ولنُطلق عليه عشوائيًا اسم "ميمكس" (memex). الميمكس هو جهاز يُخزِّن فيه الفرد جميع كتبه، وسجلاته، ومراسلاته، وهو مُؤتمت بحيث يمكن الرجوع إليه بسرعة ومرونة فائقتين. إنه امتداد حميمي ومعزَّز لذاكرته...
ستظهر أشكال جديدة كليًا من الموسوعات، مجهَّزة مسبقًا بشبكة من المسارات الترابطية (associative trails) التي تمر عبرها، ومهيّأة ليتم إدخالها إلى الميمكس وتوسيعها بداخله.
ورغم أنه يُنظر لـ "ميمكس" كسلف للإنترنت غالباً، إلا أنه لم يكن أول محاولة لتنظيم المعلومات على نطاق عالمي. فقد سبق بول أوتليه (Paul Otlet) هذا المفهوم بمشروعه "مندانيوم" (Mundaneum)، الذي استخدم بطاقات الفهرسة لبناء شبكة معلومات عالمية. ورغم أن عمله أقل شهرة، إلا أنه كان رائدًا في إدارة واسترجاع المعلومات.

حفّزت أفكار بوش ومفهوم "ميمكس" العديد من المشاريع الثورية في الحوسبة، ممهدة الطريق للعالم المتصل بالمعلومات الذي نعيش فيه اليوم.
الحرب الباردة وحاسوب SAGE
دفعت الحرب الباردة حدود المعالجة اللحظية للبيانات والحوسبة التفاعلية. وكان نظام (SAGE) – البيئة الأرضية شبه الآلية – من IBM إنجازاً رائداً.
عرض فيلم ترويجي من IBM عام 1956 بعنوان "في حالة تأهب" (On Guard) كيف مهد نظام SAGE الطريق لواجهات رسومية تفاعلية. فقد قدّم شاشات عرض إلكترونية آنية تُظهر بيانات الرادار، وتتيح للمستخدمين التفاعل معها باستخدام قلم ضوئي (Light Pen)—وأداة تسبق استخدام الفأرة ولانزال نستخدم نسخاً متطورة جداً منها اليوم. أصدرت IBM أول كمبيوتر إلكتروني لها عام 1952.
كان هذا التفاعل البصري اللحظي مع البيانات بمثابة تحول جذري، مهد الطريق للحواسيب مثل (PDP-1)، التي شهدت أول لعبة حاسوبية: Spacewar!، وكذلك نظام PLATO في جامعة إلينوي، والذي كان من أوائل نظم التعليم التفاعلي.
ما أهمية كل هذا؟
كانت القدرة على "رؤية" مخرجات الحاسوب بصرياً لحظة تأسيسية في تاريخ واجهات المستخدم الرسومية—إذ أصبحت ردود الفعل البصرية (Visual Feedback) محورية. وقد مثّلت الأقلام الضوئية والبيانات اللحظية بداية الحوسبة التفاعلية، حيث يشترك الإنسان والآلة في فضاء زمني وبصري واحد.
وضعت رؤى بوش وأوتليه الحاسوب في دور الشريك الإدراكي، وليس مجرد أداة حساب، واضعة “الواجهة” في قلب عملية فهم العالم.
ما الذي يمكن أن تفعله الحواسيب أيضاً؟ لمن تُصمم؟ ولماذا؟
سنستكشف ذلك في الجزء التالي.