لماذا لن يكتشف السمك الماء؟
عن فضل الأطفال الغير متوقع في واجهات أنظمة التشغيل التي نستخدمها اليوم
في عام 1967 كان مهندس الحواسب والباحث آلان كاي Alan Kay يعمل على تخيل جهاز كمبيوتر مكتبي كان الأول من نوعه في تلك الفترة. تاريخ الحواسب الشخصي طويل و مثير جداً للاهتمام، لكن اهتمام آلان بتصميم جهاز أصغر من أجهزة الـ Main Frame الضخمة وبشكل متكامل ضمن صندوق كان ثورياً في تلك الفترة. كان اسم الجهاز Flex Machine وكان يزن أكثر من 45 كيلو جرام!
لكن واجه آلان أمرين بعد انتهائه من العمل على الجهاز.
كان الجهاز مصدراً جيداً لتسخين القهوة :) (وفقاً لآلان)
الأهم بالنسبة لنا هو أنه تميز بواجهة مستخدم سببت للمستخدمين قرفاً مماثلاً لرؤية حاوية قمامة (وفقاً لكلام آلان أيضاً)
أدت تصرفات المستخدمين لإحباط آلان! كان السؤال الدائم في ذهنه كيف بذل كل هذا الجهد من تطوير لغة برمجية خاصة وميزات بصرية جديد مذهلة (بالنسبة لذلك العصر) ولم يحصل على رضى المستخدمين؟ لماذا كانت الواجهة قبيحة وصعبة الاستخدام؟
آلان كان عرّاباً لكثير من التطورات في واجهات المستخدم، وكانت هذه أول مرة يواجه فيها آلان تحدياً من هذا النوع.
علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أن عمل آلان و التطورات المتسارعة في عالم تطوير الحواسب والواجهات عموماً تعود لكثير من الأبحاث التي كان لدوغلاس إنتغلبارت Douglas Engelbart مخترع الفأرة وآخرين في مؤسسات مختلفة قبله دوراً كبيراً فيها. أصبحت محاضرة إنغلبارت شهيرة لدرجة أصبح اسمها “أمّ كل الديموهات The mother of all demos” (قد أعود لها لاحقاً بشيء من التفصيل)
تابع آلان أعماله التي أوصلته لعمله في شركة Xerox والتي كانت تعمل وقتها على مشروع حاسب شخصي أيضاً ضمن مؤسسة Xerox PARC البحثية الشهيرة التابعة لها. وفي محاولة لتفادي المشكلة التي واجهته أثناء العمل على جهازه السابق، قرر اتباع أسلوب جديد كلياً في تصميم الواجهات.
يُعيد آلان هذا لعبارة شهيرة سمعها من مارشال ماكلوهان خبير التواصل و الإعلام الشهير. (بحثي البسيط عن الاقتباس أظهر أن العبارة ليست لمارشال ماكلوهان وإنما لكتاب قديم عن اليابان)
“لا أعرف من اكتشف الماء، لكنه بالتأكيد لم يكن سمكة!”
تحمل هذه العبارة في طياتها الكثير من التأويلات. لعل أهمها أن انغماسنا في أمر ما سيجعلنا نغفل الكثير الكثير عنه وقد لا نصل لأي حل لمشكلتنا دون التفكير بها بشكل مختلف تماماً.
كيف تعامل آلان مع مشكلته؟
كانت الستينات و السبعينات في القرن الماضي مرحلة ثورية في تطوير الحواسب والأجهزة الإلكترونية بشكل عام، قام الباحثون بالعمل على مشاريع في شتى المجالات ولمختلف الأغراض. كان أهمها بالنسبة لقصتنا مشروع لغة البرمجة لوغو Logo للباحث سيمور بابر Seymore Papert وآخرين والتي كانت موجهة للأطفال. يمكننا الحديث لساعات عن لغة لوغو وتأثيرها، لكن ما يهمنا هنا هو أن آلان قرر إعادة النظر في موضوع تصميم واجهات الحاسب الذي كان يعمل عليه و البدء من فرضية التصميم للأطفال إذا كانت المشاريع السابقة لتصميم الواجهات للبالغين قد فشلت. أنطلق آلان من هذا المفهوم لتطوير SmallTalk وهي لغة برمجة بصرية كائنية التوجه وموجهة للأطفال.
ما نتعامل معه هنا هو تغير جوهري في النظر للحاسب كجهاز، و النظر له كوسط كالورقة والقلم وليس جهازاً معقداً كالسيارة مثلاً. نعطي أولادنا ورقة وقلماً من ثلاث سنوات فقط و لانعلمهم قيادة السيارة مثلاً.
تغيير الأسلوب الجوهري في التعامل مع المشكلة هو مفتاح هنا، مرة أخرى لن نستطيع اكتشاف الماء إن كنا كلنا أسماكاً.
تتابعت أعمال آلان في Xerox PARC وتجارب تصميم الواجهات واختبارها على الأطفال وتصوير ردود فعلهم على استخدام الفأرة والواجهات البصرية والأفكار المختلفة التي كانت تأتي من الفريق إلى أن وصلت لإطلاق أحد أوائل الأجهزة الشخصية التجاري Xerox Alto الذي حمل كل هذه الأفكار في واجهته الثورية حينها. لم ينجح هذا الجهاز خارج إطار الأبحاث والمؤسسات الجامعية.
بعد هذا عمل الفريق على جهاز Xerox Star الذي نضجت فيه الواجهات أكثر.
تزامن الأمر مع عرض فريق PARC لأعمالهم في تطوير واجهات المستخدم على ستيف جوبس وفريق آبل الجديدة حينها في نهاية السبعينات. سيطرت الواجهات هذه على مخيلة ستيف إلى أن نقلها بشكل شبه حرفي (مع بعض التطويرات) لتصبح المعيار الرئيسي لواجهة جهاز ماكنتوش الجديد وكل الواجهات البصرية التي نراها اليوم. من فكرة سطح المكتب إلى النوافذ إلى استخدام الماوس (التي صممتها شركة IDEO الشهيرة لأول جهاز ماكنتوش حينها). جدير بالذكر أن آلان انتقل للعمل في Apple آبل بعد عمله في Xerox PARC.
و تعود جذور أغلب هذه الواجهات التي نراها اليوم، لاختبارات آلان وفريقه و تصميم واجهات يمكن للأطفال فهمها والتعامل معها بدل التركيز المباشر على البالغين.
السابق كان اختزالاً (مبالغاً ربما) لتاريخ تطور واجهات المستخدم التي تحدث عنها آلان في محاضرة شهيرة عام 1987 Doing with images makes symbols. المحاضرة غنية جداً ومليئة بكثير من التفاصيل حول الأبحاث الكثيرة التي أدت لتطوير الأجهزة و واجهات المستخدم التي نتعامل معها اليوم. سأعود في نشرات مستقبلية لكثير من الأمور التي أغلفتها عن قصد في تاريخ الواجهات.
الخلاصة؟
التاريخ مصدر مميز لإعادة النظر في مشاكل اليوم. وتاريخ الحوسبة بالتحديد هو تاريخ شبه منسي مع حداثته.
من المفيد - جداً - أن نعيد النظر في المشاكل من وجهة نظر مختلفة كلياً.
شكراً لقراءة نشرة بريد لهذا الأسبوع! موعدنا في الأسبوع القادم :)